فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}.
هذه الآية نزلت بعد العشر الآيات المتقدمة، فالجملة استئناف ابتدائي، ووقوعه عقب الآيات العشر التي في قضية الإفك مشير إلى أن ما تضمنته تلك الآيات من المناهي وظنون السوء ومحبة شيوع الفاحشة كله من وساوس الشيطان، فشبه حال فاعلها في كونه متلبسًا بوسوسة الشيطان بهيئة الشيطان يمشي والعامل بأمره يتبع خطى ذلك الشيطان.
ففي قوله: {لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان} تمثيل مبني على تشبيه حالة محسوسة بحالة معقولة إذ لا يعرف السامعون للشيطان خطوات حتى ينهوا على اتباعها.
وفيه تشبيه وسوسة الشيطان في نفوس الذين جاءوا بالإفك بالمشي.
{وخطْوات} جمع خطوة بضم الخاء.
قرأه نافع وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير بسكون الطاء كما هي في المفرد فهو جمع سلامة.
وقرأه من عداهم بضم الطاء لأن تحريك العين الساكنة أو الواقعة بعد فاء الاسم المضمومة أو المكسورة جائز كثير.
والخطوة بضم الخاء: اسم لنقل الماشي إحدى قدميه التي كانت متأخرة عن القدم الأخرى وجعلها متقدمة عليها.
وتقدم عند قوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} في سورة البقرة (168).
و{مَن} شرطية ولذلك وقع فعل {يتبع} مجزومًا باتفاق القراء.
وجملة: {فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر} جواب الشرط، والرابط هو مفعول {يأمر} المحذوف لقصد العموم فإن عمومه يشمل فاعل فعل الشرط فبذلك يحصل الربط بين جملة الشرط وجملة الجواب.
وضميرا {فإنه يأمر} عائدان إلى الشيطان.
والمعنى: ومن يتبع خطوات الشيطان يفعل الفحشاء والمنكر لأن الشيطان يأمر الناس بالفحشاء والمنكر، أي بفعلهما: فمن يتبع خطوات الشيطان يقع في الفحشاء والمنكر لأنه من أفراد العموم.
والفحشاء: كل فعل أو قول قبيح.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء} في سورة البقرة (169).
والمنكر: ما تنكره الشريعة وينكره أهل الخير.
وتقدم عند قوله تعالى: {وينهون عن المنكر} في سورة آل عمران (104).
وقوله: {ولولا فضل الله عليكم} الآية، أي لولا فضله بأن هداكم إلى الخير ورحمته بالمغفرة عند التوبة ما كان أحد من الناس زاكيًا لأن فتنة الشيطان فتنة عظيمة لا يكاد يسلم منها الناس لولا إرشاد الدين، قال تعالى حكاية عن الشيطان: {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} [ص: 82، 83].
و{زكى} بتخفيف الكاف على المشهور من القراءات.
وقد كتب {زكى} في المصحف بألف في صورة الياء.
وكان شأنه أن يكتب بالألف الخالصة لأنه غير ممال ولا أصله ياء فإنه واوي اللام.
ورسم المصحف قد لا يجري على القياس.
ولا تعد قراءته بتخفيف الكاف مخالفة لرسم المصحف لأن المخالفة المضعِّفة للقراءة هي المخالفة المؤدية إلى اختلاف النطق بحروف الكلمة، وأما مثل هذا فمما يرجع إلى الأداء والرواية تعصم من الخطأ فيه.
وقوله: {والله سميع عليم} تذييل بين الوعد والوعيد، أي سميع لمن يشيع الفاحشة، عليم بما في نفسه من محبّة إشاعتها، وسميع لمن ينكر على ذلك، عليم لما في نفسه من كراهة ذلك فيجازي كلًا على عمله.
وإظهار اسم الجلالة فيه ليكون التذييل مستقلًا بنفسه لأنه مما يجري مجرى المثل.
{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى}.
عطف على جملة: {لا تتبعوا خطوات الشيطان} [النور: 21] عطف خاص على عام للاهتمام به لأنه قد يخفى أنه من خطوات الشيطان فإن من كيد الشيطان أن يأتي بوسوسة في صورة خواطر الخير إذا علم أن الموسوس إليه من الذين يتوخون البر والطاعة، وأنه ممن يتعذر عليه ترويج وسوسته إذا كانت مكشوفة.
وإن من ذيول قصة الإفك أن أبا بكر رضي الله عنه كان ينفق على مسطح بن أثاثة المُطَّلبي إذ كان ابن خالة أبي بكر الصديق وكان من فقراء المهاجرين فلما علم بخوضه في قضية الإفك أقسم أن لا ينفق عليه.
ولما تاب مسطح وتاب الله عليه لم يزل أبو بكر واجدًا في نفسه على مسطح فنزلت هذه الآية.
فالمراد من أولي الفضل ابتداء أبو بكر، والمراد من أولي القربى ابتداء مسطح بن أثاثة، وتعم الآية غيرهما ممن شاركوا في قضية الإفك وغيرهم ممن يشمله عموم لفظها فقد كان لمسطح عائلة تنالهم نفقة أبي بكر.
قال ابن عباس: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا: والله لا نصل مَن تكلَّم في شأن عائشة.
فنزلت الآية في جميعهم.
ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية إلى قوله: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} قال أبو بكر: بلى أحب أن يغفر الله لي.
ورجّع إلى مسطح وأهله ما كان ينفق عليهم.
قال ابن عطية: وكفّر أبو بكر عن يمينه، رواه عن عائشة.
وقرأ الجمهور: {ولا يأتل}.
والايتلاء افتعال من الإلية وهي الحلف وأكثر استعمال الإلية في الحلف على امتناع، يقال: آلى وائتلى.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم} في سورة البقرة (226).
وقرأه أبو جعفر {ولا يتألّ} من تألّى تفعّل من الأليّة.
والفضل: أصله الزيادة فهو ضد النقص، وشاع إطلاقه على الزيادة في الخير والكمال الديني وهو المراد هنا.
ويطلق على زيادة المال فوق حاجة صاحبه وليس مرادًا هنا لأن عطف {والسعة} عليه يبعد ذلك.
والمعنيّ من أولي الفضل ابتداء أبو بكر الصديق.
والسعة: الغنى.
والأوصاف في قوله: {أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله} مقتضية المواساة بانفرادها، فالحلف على ترك مواساة واحد منهم سد لباب عظيم من المعروف وناهيك بمن جمع الأوصاف كلها مثل مسطح الذي نزلت الآية بسببه.
والاستفهام في قوله: {ألا تحبون} إنكاري مستعمل في التحضيض على السعي فيما به المغفرة وذلك العفو والصفح في قوله: {وليعفوا وليصفحوا}.
وفيه إشعار بأنه قد تعارض عن أبي بكر سبب المعروف وسبب البر في اليمين وتجهم الحنث وأنه أخذ بجانب البر في يمينه وترك جانب ما يفوته من ثواب الإنفاق ومواساة القرابة وصلة الرحم وكأنه قدم جانب التأثم على جانب طلب الثواب فنبهه الله على أنه يأخذ بترجيح جانب المعروف لأن لليمين مخرجًا وهو الكفارة.
وهذا يؤذن بأن كفارة اليمين كانت مشروعة من قبل هذه القصة ولكنهم كانوا يهابون الإقدام على الحنث كما جاء في خبر عائشة.
أن لا تكلم عبد الله بن الزبير حين بلغها قوله: إنه يحجر عليها لكثرة إنفاقها المال.
وهو في صحيح البخاري في كتاب الأدب باب الهجران.
وعُطف {والله غفور رحيم} على جملة: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} زيادة في الترغيب في العفو والصفح وتطمينًا لنفس أبي بكر في حنثه وتنبيها على الأمر بالتخلق بصفات الله تعالى. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَاءُ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
بين جل وعلا في هذه الآية، أنه لولا فضله ورحمته، ما زكا احد من خلقه ولكنه بفضله ورحمته يزكي من يشاء تزكيته من خلقه.
ويفهم من الآية أنه لا يمكن أحدًا أن يزكي نفسه بحال من الأحوال، وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الاية الكريمة جاء مبينًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 49] الآية. وقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} [النجم: 32].
والزكاة في هذه الآية: هي الطهارة من أنجاس الشرك، والمعاصي.
وقوله: {ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَاء} أي يطهره من أدناس الكفر والمعاصي بتوفيقه وهدايته إلى الإيمان والتوبة النصوح، والأعمال الصالحة.
وهذا الذي دلت عليه هذه الآية المذكورة لا يعارضه قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9] ولا قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} [الأعلى: 14] على القول بأن معنى تزكى تطهر من أدناس الكفر والمعاصي، لا على أن المراد بها خصوص زكاة الفطر، ووجه ذلك في قوله: من زكاها أنه لا يزكيها إلا بتوفيق الله وهدايته إياه للعمل الصالح، وقبوله منه.
وكذلك الأمل في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} [الأعلى: 14] كما لا يخفى.
والأظهر أن قوله: {مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} الآية: جواب لولا التي تليه، خلافًا لمن زعم أنه جواب لولا في قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [النور: 20] وقد تكرر في الآيات التي قبل هذه الآية حذف جواب لولا، لدلالة القرائن عليه.
{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
نزلت هذه الآية الكريمة في أبي بكر رضي الله عنه، ومسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، وكان مسطح المذكور من المهاجرين وهو فقير، وكانت أمه ابنة خالة أبي بكر رضي الله عنه، وكان أبو بكر ينفق عليه لفقره وقرابته وهجرته، وكان ممن تكلم في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالإفك المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ الذين جَاءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} [النور: 11] الاية، وهو ما رموها به من أنها فجرت مع صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه.